ففطرة التديُّن ستلاحق الإنسان ما دام ذا عقل يعقل به الجمال والقبح، وستزداد فيه هذه الفطرة على نسبة علوِّ مداركه، ونمو معارفه.
والحقُّ أنَّ الإيمان بقوَّة عليا ـ خلقت هذا الكون وقامت بتدبيره ورعايته على إحكام نظام ـ ضرورة عَقليَّة بعد كونه ضرورة فِطْريَّة ووجدانيَّة، فإنَّ العقل الإنسانيَّ بغير تعلُّم ولا اكتسابٍ يؤمن بقانون السَّبَبيَّة، ولا يقبل فعلًا من غير فاعل، ولا صَنْعة من غير صانع.
وبدون التديُّن والإيمان سيظلُّ هذا السؤال الَّذي أثاره القرآن حائرًا بغير جواب: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَـٰلِقُونَ 35 أَمْ خَلَقُوا ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ 36 ﴾ .
وبداهة لم يُخلَقوا من غير شيءٍ وطبعًا لم يَخلقوا هم أنفسهم، ولم يزعم أحدٌ أنَّه خلق ذرَّة في السماوات أو في الأرض، فلم يبقَ إلَّا الاعتراف بوجود الخالق العليم الحكيم، الَّذي أعطى كلَّ شيءٍ خَلْقَه ثمَّ هدى.
والَّذين فرُّوا من الاعتراف بالألوهيَّة الخالقة، لأنَّها شيء غير مشاهد ولا محسوس، ولا يدخل تحت التجربة، لم يمكنهم إلَّا أن يلجؤوا إلى قوَّة غامضة خفيَّة هي الأخرى أطلقوا عليها «الطبيعة».
وقد كان الوثنيُّون والجاهليُّون أقوم فِكْرًا، وأصرح رأيًا، حين اعترفوا بموجب الفطرة ومتقضى العقل، فلم يلفُّوا ويدوروا كهؤلاء الَّذين يقولون بالدهر والطبيعة، فحين سئلوا: من خلق السماوات والأرض؟ قالوا في صراحةٍ وصدق: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ ﴾ ، ﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَـٰرَ وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ ﴾ .